فاروق يوسف/القدس العربي:ـ
الرسم يختفي.ـ
تقصد اللوحات التي تعلق على الجدران
وهل هناك نوع آخر من الرسم؟ـ
نعم.نعم.
للرسم حياة مجازية وافتراضية. في العمارة (التخطيط المديني أيضا) كما في الحرب (تقطيع أوصال الحقيقة) هناك خرائط، يبدو كل شيء من غيرها مجرد نزوة عابرة لا تقود إلا إلى فشل مؤكد. ما لا تصفه تلك الخرائط هو بالضبط ما يسعى الرسم إلى التحقق من وجوده. ربما يقودنا ذلك المسعى إلى القبض على لغة تقع تحت اللغة. لغة نستخرجها من خلال البصر الثاقب بعد عناء التنقيب في منجم عميق.
لنتذكر أن الادريسي تخيل خارطة للأرض ونفذها على الورق. الأمر أشبه بعمل الكهنة والعرافات في المعابد التي كانت ترعى الأشكال المقترحة للآلهة القديمة. في كل مكان من عالم اليوم تبدو النزعة واضحة لدى الفنانين للتحرر من الرسم كما عرفته كل العصور السابقة، باعتباره محاولة لوصف العالم (الطبيعة وليس البيئة)، نزعة تكشف عن رغبة عميقة في التماهي مع تقنيات الواقع اليومي وصولا إلى جوهر واقعة ما، هي موضع تفكير أولئك الفنانين الذهني والبصري في الوقت نفسه.
أتذكر أن صديقا كان قادما من بولندا للتدريس في بغداد هو الرسام المغربي عز الدين دويب قال لي ذات يوم من نهاية سبعينات القرن الماضي: 'تسعون بالمئة من فعل الرسم هو تفكير' يومها لم استوعب تلك الفكرة المربكة. اليوم أتذكرها مثل نبوءة. يومها كنا مقيدين بفكرة أن الرسام يتخيل العالم عن طريق عينه. وهي فكرة بائدة أوقعت معظم الرسم العربي في الهاوية التي تعيق الآن حركته وتتحكم بمصيره. كان هربرت ريد (المؤرخ وناقد الفن البريطاني) قد ارتجل حيرة صادقة أمام وقائع فنية كانت تجري من حوله في الستينات الأوروبية والأمريكية. لم يفهم الرجل كيف يمكن أن يكون الجمال ممكنا خارج الرسم والنحت. الآن صارت حيرة ريد نوعا من البلاهة، ذلك لأن مفهوم الجمال نفسه قد تعرض للانقراض.
فالفنانون لم يعد همهم أن يصنعوا جمالا. هناك عالم آخر، عالم لا يشعر الفنانون أنه في حاجة إلى مزيد من الخفة الغنائية، عالم هو في حاجة إلى شيء آخر غير الجمال الذي يزين ويخدع ويحتال ويقود إلى أفكار مضللة عن شيء لا وجود له.
2حين اخترع البارود هزمت فكرة قديمة عن الحرب. انتصر خيال المادة على مهارة الجسد. انكمشت امبراطوريات لأنها لم تستوعب المفاجأة الخارقة. ظلت حيويتها تعمل وفق الية متعثرة تفتقر إلى أية قيمة مدركة. كانت المعجزة أكبر من القدرة على الاستيعاب والفهم. ما حدث للرسم العربي (للثقافة العربية بشكل عام) شبيه بذلك تماما. لا يزال مفهوم الرسم العربي هو المفهوم عينه الذي جلبه رواد الحركة الفنية في الوطن العربي. لم يتعرض ذلك المفهوم للإزاحة بالرغم من أن الموضوعات والأشكال والتقنيات والمواد كانت تتبدل بين مرحلة وأخرى. ظل الرسامون العرب يستهلكون مفهوما نشأ في الغرب قبل قرون واستهلكته الحركات الفنية هناك حتى صار خاويا من كل ما يجعله معبرا عن حقيقة العيش عند حدود اللامرئي. صار ذلك المفهوم أشبه بمنجم فرغ من الذهب.
يمكننا تخيل المشهد البائس لبشر اعتادوا على الإقامة هناك. غادر المغامرون بآخر الغبار اللامع فيما ظل بريق ذلك الغبار يتردد في العيون المطفأة. بطريقة أو بأخرى فان الرسام العربي حول كل ما تعلمه من أسرار الرسم الغربي إلى عناصر في حرفة جديدة، عناصر صارت تتكرر وهي تلتهم في طريقها الكثير من المواهب الكبيرة بلا رحمة. أمر مؤسف فعلا. كانت الخسارة قاسية لمن يعرف حجم الجهد الذي بذله الرسام العربي في العقود الماضية. حتى ستينات القرن الماضي كان اللهاث مقبولا، ذلك لانه كان يعبر عن رغبة في اللحاق بما أنجزه الرسم في الغرب.
محاولة كان في إمكانها أن تضعنا على الطريق لولا أن الطريق نفسها قد انحرفت عن مسارها فبقي الرسام العربي واقفا أمام الجدار لا يعرف ماذا يفعل. وكما أرى فان العيب كله يكمن في نوع الحيوية التي استقبلنا من خلالها انجازات الآخر. وهي حيوية تستند إلى المحاكاة أكثر مما تذهب إلى الإلهام. لذلك يرسم العرب الآن بالطريقة عينها التي كان الرسام الغربي يرسم بها قبل عقود، بل لنقل قبل قرون. لقد هزمنا المفهوم الذي صار صعبا علينا التعرف عليه، لا لشيء إلا لأنه جزء من حيوية ثقافة لم نتعرف على حقائقها الجوهرية.
............................
مصدر المقال موقع شرفات
................................
No comments:
Post a Comment